ثقافة
أخر الأخبار

مراجعة لرواية لا تطفئ الشمس

مراجعات

لا تطفىء الشمس….
إحسان عبدالقدوس….
للنفس الإنسانية دوما الحضور الأبرز في الأعمال الروائية على اختلاف موضوعاتها….فهي بمثابة البؤرة الأصيلة لجلها إن لم تكن كلها….يحاول كل كاتب أو روائي تناول جانب منها أو أكثر… وجعلها المحرك الكامن والبعيد للأحداث ممايجعل للنص نكهة خاصة قد تكون محببة للقارىء أو مرة لاذعة غير مستساغة تبعا لذوقه في تذوق السطور والحبكة التي بينها….ولعل إحسان عبدالقدوس من أكثر الروائيين العرب إبحارا وغوصا في أعماق النفس باحثا بين خباياها ومطلعا في الوقت نفسه على بواطنها…لذا جاءت أعماله الروائية كدراسات لما جلاه وخبره فيها لكن بالطابع الأدبي ذي الصيغة القريبة لملتهم الصفحات…
لا تطفىء الشمس…هي إحدى هذه الأعمال الفذة التي برع فيها إحسان بالإلمام بجوانب الشخصيات وتفاصيلها على اختلافها…جعل من ستة قصص رواية واحدة يزيد عدد صفحاتها على الألف….
يرصد إحسان عبد القدوس التحولات الاجتماعية والسياسية لمصر عقب ثورة 23 يوليو 1952.من خلال عائلة الأرملة عنايات وابنيها أحمد وممدوح…وبناتها فيفي ونبيلة وليلى…حيث يعرض تفاصيل كل فرد فيها على حدا…متتبعا مساريها الداخلي والخارجي…فهو يدرك أن لكل طبيعة بشرية أي كانت عوالم خفية وأخرى ظاهرة ومابين الاثنين ثمة تصادمات ومناحرات قد تكون ذات نتيجة إيجابية مثمرة…أو سلبية سيئة….
عنايات الأم الجميلة _التي تؤرقها فكرة الحفاظ على ترابط أسرتها وتماسكها وإبقائها قريبة منها _لها أحلامها الوردية المرتبطة بذكريات ماض تسعى لإعادة إحيائه….
الابن الأكبر أحمد _والذي يعد الشخصية الأهم برأيي_يتخبط هنا وهناك باحثا عن ذاته المبعثرة والممزقة…ذو ملامح مبهمة لا وضوح فيها…تتطور شخصيته مع سياق الرواية لتغدو صلبة ذات تأثير كبير في مجريات الأحداث…
فيفي ونبيلة وليلى…كما سائر الفتيات … لكل واحدة منهن تجربتها العاطفية الخاصة وعالمها الفكري الذي يتناسب وشخصيتها…
ممدوح هو الابن الأصغر المقبل على الحياة والكاره لكل منغصاتها…
شخصيات متنوعة وحكايا متشعبة ضمن عمل أدبي روائي واحد…وهذا مايحسب للكاتب…فقد امتلك ناصية القلم بشكل مؤثر…وجعل من كل فرد في الرواية بطلا وحده ليظن القارىء أنه يمتلك الزمام وحده ثم مايلبث أن يكتشف أن ذاك لم يكن سوى جزء من كل متراص بطريقة فعالة…
ربما ابتداع الحكايات في الرواية نفسها جعلها ثرية وحبلى بالتفاصيل والوقائع التي ينتظرها القارىء الباحث عن العلاقات والوشائج الرابطة بينها …فكل واحدة تفضي إلى أخرى وكأنها إحدى حبات عقد جميل…..
لكن لماذا اختار الكاتب الشمس جزءا من العنوان العام لها..” لا تطفىء الشمس “….؟؟؟
نحن نعلم أن الشمس تغيب لكنها لا تختفي كليا عن هذا العالم الشاسع….تشرق في مكان…وتغرب في آخر…وهكذا النفس الإنسانية…تشرق…تحيا…تتوعك…يصيبها الإعياء…وتشيخ…لكنها لا تموت مادامت تتنفس…النقطة الفيصل في ذلك هي الصدمة أو لنقل حدث التحول….جميعنا نعلم أن حياة أي فرد منا لا تسير وفق وتيرة واحدة …بل تمر بالكثير من المنعطفات فلا تكاد تستقر …وهناك من يمتحن “بضم الياء” في ذاته …فيعيش متخبطا يفتقد الاستقرار …وهذا تحديدا ماتعافه الأنا الباحثة عن أرض صلبة تقف عليها…ولعل هذه الفوضى التي تسود الجميع أو جلهم …تدفعهم للبحث عن الدواء اللازم لإيقاف حالة التخبط تلك…إلا أن ذلك لا يتأتى ببساطة …بل يساق إلينا من جنس تجاربنا…حتى يكون أكثر تأثيرا فينا…ذاك التأثير الذي يغير من معتقداتنا ويعيد صياغتها من جديد…والذي يجعلنا نرى الأشياء بأعين أخرى غير التي ألفناها…ومن ثم إحيائنا من جديد….وهذه هي الشمس التي أراد إحسان لقرائه أن يتمتعوا بدفء حرارتها ونورها…
لم تكن الروايات المتشابكة سوى قصص كل واحد منا في هذه الحياة…لكل منا فصل فيها… نهايته قد تكون سعيدة أو تعيسة حسب الزاوية المنظور منها…
الشمس لا تغيب عن حياة الواثق بخطاه…المتتبع لحلمه والسائر قدما نحوه دون إبطاء….الأنا وماتريده هي النواة التي تدور في فلكها السلوكيات…متى كانت ثابتة قوية ستظل كذلك لا تغيب عنها الإرادة….
نحن من نشكل عالمنا لا هو…ونحن من نستطيع إدراك قيمة مانفعله….لأننا عندما نثق بمنجزات ذواتنا سنعيش في كنف الرغد والمنعة معا..
الشمس تشرق في قلوب الباحثين عن الجمال في الأرواح الذين لا يلتفتون إلى البريق المزيف في الهالات…
بقلم #ريم أحمد

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!